صدع الإخوان- نحو الهاوية أم فرصة للمراجعة والإنقاذ؟

المؤلف: محمود عبد الهادي08.18.2025
صدع الإخوان- نحو الهاوية أم فرصة للمراجعة والإنقاذ؟

لم يكن بوسع أحد أن يتوقع ذلك الشرخ الهائل الذي فاجأ جماعة الإخوان المسلمين، هذا الانقسام العمودي الذي عصَف بقوام قيادتها، ليُفضي إلى وجود كيانين مُنفصلين تمامًا، يتنازع كل منهما على الشرعية، ويستقطب الأتباع والمناصرين، ليُضيف بذلك معولًا هدّامًا جديدًا إلى سلسلة المعاول الفولاذية الجبارة التي تستهدف تقويض أركان الجماعة وبُنيانها، لا سيما في السنوات الأخيرة التي أعقبت ما يُعرف بـ "ثورات الربيع العربي". يتزامن هذا الانقسام الجلل مع اقتراب الجماعة من الاحتفال بمرور مئة عام على تأسيسها، فهل يا ترى سيأتي ذلك اليوم الموعود؟ أم ستتداعى الجماعة وتخبو جذوتها قبل بلوغ تلك الذكرى المئوية؟ أم سيُدرك قادة هذين الكيانين المتنازعين وأتباعهما حجم الكارثة التي تسببوا فيها، والتي تفوق في جسامتها ونتائجها كافة المحن والابتلاءات التي واجهت الجماعة داخل مصر وخارجها على امتداد تاريخها الطويل؟

 

هل سيتفطن أعضاء جماعة الإخوان المسلمين إلى خطورة المصاب الجلل الذي أحدق بهم، وإلى تلك الهاوية السحيقة التي ينزلقون إليها، أم سيتركون الدائرة تدور وتفعل بهم ما فعلت بغيرهم؟ هل ستجتاحهم سُنن الصعود والهبوط التي لا تُحابي أحدًا، أم سيتداركون الأمر قبل أن يستفحل الداء ويستعصي على الدواء؟"

أسباب التصدع والدروس المنسية

لنُعرض جانبًا تلك التفاصيل الدقيقة التي أذكت نار هذا الانقسام المُريع، والحيثيات المُطولة التي يسوقها كل طرف لإثبات صواب موقفه وسلامة منهجه، ليس استهانةً بهذه التفاصيل أو تقليلًا من شأنها، ولا تصديقًا لمقولة أن الشيطان يكمن في التفاصيل، وإنما لأن هذا الشرخ أكبر وأعمق من كافة تلك الجزئيات المُثيرة للجدل، ولأن الخوض فيها وتتبع خيوطها لن يقودنا إلى حل ناجع، ولن يُساهم في معالجة هذا الصدع الآخذ في التفاقم يومًا بعد يوم.

إن آخر ما كان ينتظره المراقبون والمحللون هو حدوث انقسام بهذا الحجم غير المسبوق في قيادة جماعة الإخوان المسلمين، ليس لأن الجماعة كيان ملائكي مُنزّه عن مثل هذه الخلافات، وإنما لأن العارفين ببواطن الأمور كانوا يتوقعون أن تكون الجماعة قد اكتسبت على مر تاريخها الطويل والحافل بالأحداث الجسام قدرًا وافرًا من الخبرات المتراكمة، والأنظمة المحكمة، والحكمة البالغة، والحنكة السياسية، ما يُحصّن كيانها في وجه العواصف العاتية والأزمات الطاحنة والزلازل المدمرة التي مرت بها عبر العقود الماضية، ولكن المفاجأة الصادمة كانت أن هذا التحصين لم يكن كافيًا لدرء خطر هذا الانقسام، ما أدى إلى حدوث هذا الشرخ المُقلق، وبذلك يُقدم الإخوان لخصومهم وأعدائهم هديةً ثمينة فاقت تصوراتهم الجامحة، وجعلتهم أقرب ما يكونون إلى تحقيق أهدافهم الإستراتيجية الرامية إلى القضاء على جماعة الإخوان المسلمين أكثر من أي وقت مضى. فهل يدرك أعضاء جماعة الإخوان المسلمين هذه الحقيقة المرة، ويسارعون الخطى لرأب هذا الصدع قبل فوات الأوان، أم سيصيبهم ما أصاب غيرهم من الجماعات التي تفرقت بها السبل وتشتت بها الأهواء؟

لقد باتت الخلافات والصراعات سمةً ملازمة لمعظم قادة وزعامات الدول العربية، الذين أخفقوا مرارًا وتكرارًا في تسوية خلافاتهم وأزماتهم بما يخدم مصالحهم المشتركة ويحقق طموحات شعوبهم، سواء في جامعة الدول العربية المتهالكة، أو اتحاد المغرب العربي المُجمد، أو مجلس التعاون الخليجي الذي عصفت به الخلافات، ومنذ ما يقرب من عقد من الزمان، ونحن نشهد إخفاق العديد من الدول العربية في حل خلافاتها السياسية على الصعيد المحلي، ووقف صراعاتها المسلحة الدامية، كما هو الحال في اليمن وسوريا وليبيا والعراق والصومال، وليس ببعيد عن ذلك تلك الخلافات الداخلية التي تشهدها تونس ومصر والسودان ولبنان وفلسطين. وعلى الرغم من الخبرة التاريخية الهائلة المتوفرة في كيفية حل الخلافات والأزمات، وعلى الرغم من الأدوات الإقليمية والدولية المتاحة لتحقيق ذلك؛ فإن عوامل ذاتية معينة تعمل دائمًا على تعقيد الخلافات والأزمات والصراعات المسلحة، وتصعيدها وإطالة أمدها، وعلى رأس هذه العوامل:

  • التشبث المُستميت من جانب كل طرف بموقفه ورأيه.
  • الاقتناع الراسخ لدى كل طرف بأن الظروف تسير في صالحه، وأنه لا يلزمه سوى بضعة أيام معدودة حتى يتمكن من السيطرة على الأوضاع وتوجيه الأمور وفق هواه.
  • تغييب المصالح العليا للوطن والأمة، وتقديم المصالح الشخصية والفئوية الضيقة، التي تُعمي البصائر، وتُطيّش بالأذهان، وتُضلل السُبل.
  • سيطرة الغضب الجامح والنزوع إلى الثأر والانتقام، بغض النظر عن حجم النتائج الوخيمة والخسائر الفادحة المترتبة على ذلك.
  • تغليب الهوى والانفعال وردود الأفعال العاطفية على العقل والحكمة والتبصر، فلا صوت يعلو سوى صوت الإدانة والاتهام والخصومة والتهديد والوعيد.
  • الانشغال المفرط بالتفاصيل المسببة للخلاف، وترك الخلاف نفسه يتفاقم وتزداد نتائجه وبالًا وخطورة.
  • التمسك بالمواقف المتقلبة، ووجهات النظر المتغيرة، والمكتسبات الذاتية العارضة الزائلة.
  • عدم الاستعداد لتقديم أية تنازلات من شأنها المساعدة على تقريب وجهات النظر وتجاوز الخلافات وتسويتها.
  • اللامبالاة والاستهانة بضحايا الخلاف والنتائج الكارثية المترتبة عليه على كافة الأصعدة.
  • عدم الانتباه للمؤثرات الداخلية والخارجية المغرضة الخبيثة، التي تُحرّض على إذكاء الخلاف وتأجيجه وتصعيده.
  • الجهل التام بالمراحل التي يمر فيها الخلاف، فتزيده تعقيدًا وتصلبًا وتجعل من الصعب التغلب عليه.

ولا ريب أن جماعة الإخوان المسلمين تعي جيدًا هذه العوامل المُعرقلة، فقد سبق لها أن واجهت العديد من الأزمات العاصفة، وعايشت تجارب متنوعة من الخلافات والانشقاقات في صفوف الجماعات الإسلامية والواقع العربي والإسلامي المتلاطم الأمواج، وقامت بجهود كبيرة للإصلاح ورأب الصدع وتقريب وجهات النظر. إلا أنها وقعت أخيرًا فيما كانت تحذر منه دائمًا، وانحدرت باتجاه الهاوية السحيقة التي سقطت فيها دول وأحزاب وكيانات عربية كثيرة. فهل يتدارك أعضاء جماعة الإخوان المسلمين خطورة المصيبة التي أحدقت بهم، والهاوية التي ينزلقون إليها، أم سيتركون الدورة تكتمل وتصنع فيهم ما صنعت في غيرهم؟ هل ستجتاحهم سُنن الصعود والهبوط التي لا تُحابي أحدًا، أم سيتداركون الأمر قبل أن يستفحل الداء ويستعصي على الدواء؟

دلالات وتداعيات واحتمالات

إن الصدع الذي حدث في قيادة الإخوان المسلمين لم يكن حدثًا عابرًا أو أمرًا يسيرًا، لأنه يتعارض بشكل صارخ مع الأسس والمبادئ والقيم التي قامت عليها الجماعة منذ نشأتها، ومنذ انقلاب يونيو/حزيران 2013 في مصر تعرضت الجماعة لتصدعات فردية محدودة على مستوى القاعدة، ولكنها هذه المرة أصابت رأس الهرم القيادي، واستمرار هذا الصدع لفترة أطول من ذلك يشير إلى دلالات عديدة من بينها:

  • استفحال الخلاف وتجذّره في أعماق النفوس وصعوبة التراجع عنه أو التغلب عليه.
  • استمرار الخلاف يعني وجود خلل جوهري في الأسس الفكرية للجماعة وأنظمتها ومناهجها التربوية.
  • استمرار الخلاف يعني عدم وجود سلطة عليا مُلزمة تفرض كلمتها الفصل على الطرفين المتنازعين.
  • استمرار الخلاف يضفي المزيد من المصداقية على الاتهامات الباطلة التي توجهها الدول والكيانات التي أعلنت الحرب الضروس على الإخوان المسلمين.
  • استمرار الخلاف يزيد من الأمل لدى هذه الدول والكيانات الحاقدة بقرب تحقيق أهدافهم الخبيثة المتمثلة في القضاء التام على جماعة الإخوان المسلمين.
  • استمرار الخلاف يعني أن قيادة الإخوان لا تختلف في جوهرها عن غيرها من القيادات التي تتطلع إلى السلطة وتتنافس عليها بشراسة.

ومن الطبيعي والمنطقي أن تترك هذه الأزمة العميقة نتائج وآثارًا جسيمة على جماعة الإخوان المسلمين، في الجوانب التالية على وجه الخصوص:

  • التنظيم الإداري والهيكلي للجماعة.
  • الأسس الفكرية والمناهج التربوية التي تعتمد عليها الجماعة.
  • الموقف السياسي للجماعة على الصعيدين الداخلي والخارجي، العربي والدولي.

وستؤثر هذه النتائج بشكل مباشر على قيادات الجماعة وكوادرها على حد سواء، وستجد الجماعة نفسها في نهاية المطاف أمام واحد أو أكثر من السيناريوهات المحتملة التالية:

  1. حل الأزمة: وذلك عن طريق المسارعة إلى رأب الصدع وتوحيد الصفوف ونبذ الفرقة والخلاف، وهو الحل الأقل تكلفة والأقدر على إعادة الأمور إلى نصابها، وتنفيس الاحتقان النفسي الذي يعتمل في صدور كوادر الجماعة وأصدقائها ومحبيها، وهو السيناريو الوحيد الذي سيحافظ على كيان الجماعة من التفكك والانهيار والذوبان في خضم الأحداث المتسارعة.
  2. التفكك: ببقاء الصدع على ما هو عليه، وتحوله مع مرور الوقت إلى عدة جماعات أو أجنحة متناحرة تتنافس فيما بينها حول تركة الجماعة الأصل وعراقتها التاريخية، وهذا السيناريو هو الأقرب إلى التحقق إذا أخفقت الجماعة في رأب الصدع وتجاوز الخلاف.
  3. الانقلاب: حدوث تغيير انقلابي مفاجئ وغير متوقع، يتخطى الطرفين المتنازعين على السلطة، وينشغل بترتيب أوضاع الجماعة والتعامل مع ملفاتها المختلفة بصورة مغايرة تمامًا، وهذا الخيار يبقى ممكن الحدوث في حال استمرار الخلاف وتفاقمه، وظهور مبادرات سريعة ومفاجئة تتحرك فيها كوادر الجماعة المخلصة لتصحيح الأوضاع المتردية، وفرض حل جديد يقدم المحافظة على تماسك الجماعة ووحدتها على أية اعتبارات أخرى.
  4. الانهيار: تفتت الجماعة تدريجيًا، وذوبان كوادرها في غمار الحياة وتقلباتها، وانشغالهم بمتطلبات الحياة اليومية التي لا تنتهي، وهذا الخيار وارد الحدوث بقوة في حال استمرار الخلاف وتعمقه، وتعدد التصدعات والانشقاقات، وظهور أجنحة وتيارات جديدة ومتنافسة، وتفاقم الشعور بالإحباط والقنوط واليأس لدى كوادر الجماعة.

إن جماعة الإخوان المسلمين تجد نفسها في هذه المرحلة الحرجة أمام مسؤولية تاريخية كبرى من أجل التعامل بحكمة وتبصر مع هذه الفترة العصيبة من تاريخها وتاريخ الدول العربية، كي تكون أقدر على مواجهة سُنن الحياة وتقلباتها، ومقاومة أسباب الاندثار والزوال.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة